Tuesday, May 23, 2017

المدرسة في التربية الإسلامية



المدرسة في التربية الإسلامية
1- تمهيد في أهمية المدرسة ونشأتها:
لم تصل الإنسانية إلى إيجاد المدرسة على شكل الذي نراه اليوم إلا بعد أن مرت بمراحل طويلة، وتجارب عديدة.
فقد كان الطفل في الحياة البدائية يتعلم من أبويه، ومجتمعه كل شيء بأسلوب غير مقصود وغير منظم، تارة عن طريق التقليد، وتارة عن طريق التأمل والمحاكاة المقصودة، والتكرار والإعادة بقصد الإتقان.
بيد أنه كان للدين الفضل الأول في إيجاد تربية هادفة مقصودة، وذلك حين أوجد الدين الركنين الأساسيين لعملية التربية المقصودة، وهما: الهدف الواضح المحدود، وهو عبادة الله وحده، والتعريف به، والإيمان به، في جميع الأديان السماوية، والمنهج أو المادة الفكرية، والسلوكية المعينة المقصودة، وهو الاستسلام لتشريع الله، وأوامره التي أنزلها على رسله، ليحفظها الجيل ويعمل بمقتضاها، ثم ينقلها إلى الجيل الذي بعده، دواليك.
وتتابعت الأجيال، تتناقل شريعة الله وأوامره، وأسلوب عبادته، بالحفظ والتعلم، والتقليد والاتباع، فردا عن فرد، وجمعا عن فرد، وجمعا عن جمع، في الساحات والمواسم والصوامع، والبيع والمساجد، ولم تكن الكتابة قد انتشرت في أول الأمر، فكان التعليم مقصورًا على المشافهة، والمناقشة والمحاكاة والاتباع، والممارسة العملية والتجريب.
ولم يكن التعليم مقصورًا على الصغار، بل كان الصغار والكبار يتلقون التعاليم الدينية من رسل الله وأتباعهم، ويلقنونها؛ لأبنائهم ومن يليهم؛ فكان نشر الدين فريضة دينية وضرورة اجتماعية؛ لأن المجتمع المؤمن الموحد مهاجم، وأهل الحق قلة في أكثر العصور: {وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ} [يوسف: 12/ 103] ، فإذا لم يدافعوا عن أنفسهم بالدعووة إلى عبادة الله وحده، وبيان الحق والبرهان عليه، غلبوا وغزوا في عقر دارهم، واتهموا في صميم عقيدتهم وأفكارهم، ولم يخصص لتعليم أماكن خاصة، إلا إذا اعتبرنا المعابد دورا للتعليم، فكان التعليمممزوجا بكل ظروف الحياة الاجتماعية، العائلية منها والدينية والاقتصادية والحربية، والسلمية والمهنية من زراعية وصناعية.
واشتق من المعابد أماكن ملحقة بها تخصص لتخريج مختصين بالدعوة إلى الدين ينقطعون للعبادة، ويزهدون بالدنيا، وقد ذكر لنا القرآن هذه الفئة من الدعاة بقوله تعالى مشيرا إلى أتباع رسول الله عيسى بن مريم عليه الصلاة والسلام:
{وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} [الحديد: 57/ 27] .
وهكذا كانت المعابد النواة الأولى للمدارس أو للتربة المقصودة، وكان رسل الله وأتباعهم المخلصون، الدعاة إلى دين الله، هم المعلمون الأوائل في هذه البشرية1.
وقد وردت في القرآن إشارات إلى تربية بعض الرسل لأبنائهم، وما علموهم من توحيد الله وعبادته، كوصية يعقوب لبنيه، ووصية إبراهيم من قبله: {وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ، أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} [البقرة: 2/ 132-133] .
كما وردت إشارة إلى تربية بعض الصالحين لأبنائهم كوصية لقمان لابنه، وهو يعظه "سورة لقمان": [الآيات: من 13 حتى 19] .
ووردت إشارات كثيرة إلى حو ار طويل دار بين كل نبي وقومه، مثل: "نوح" و"شعيب" و"إبراهيم" و"موسى" و"صالح" و"لوط" حتى آمن من آمن، وكل هذه المحاولات يمكن اعتبارها مواقف تربوية، سنبسط بعضها عند ذكر "الطريقة الحوارية" في "أساليب التربية الإسلامية" في تمام هذا الباب إن شاء الله.
والذي يهمنا هنا هو مواقف هؤلاء الرسل التربوية، وما تبعهم عليه أتباعهم من أساليب الدعوة والتبشير بالدين، وما خصصوا من أماكن لتعليم الدين.
وهكذا استمر انتشار "دور التربية الدينية"، وكان ذلك بين مد وجزر؛ لأن الصراع كان دائما بين الكفر والإيمان، بين السحرة1 والكهان والعرافين، يربون الناس على الباطل، والخرافات الوثنية، وبين الرسل وأتباعهم يربون الناس على التفكير الصحيح، وتوحيد الله، والحرية والمسئولية والكرامة الإنسانية، والعدل، والإحسان، وتعليل الأمور تعليلا منطقيا بعيدا عن الخرافة والشرك، كما رأينا في "أسس التربية الإسلامية" في فصل سابق.
__________
1 ولا حاجة إلى اعتبار ما يسمونه "مدرسة القبيلة"، واتخاذ دور "الكهان" أو "العرافين" فيها: نواة لنشوء المدرسة؛ لأن الأخبار عن القبائل متناقضة ضعيفة السند في هذا الشأن بينما تجمع الأخبار الصحيحة من الأديان السماوية على ما ذهبنا إليه إجماعا لا يرقى إليه الشك، والوحي أقدم من الكهانة، والعرافة بصريح القرآن.

2- المدرسة في عصر الرسول صلى الله عليه وسلم:
وبقي الأمر كذلك حتى ظهر الإسلام، واستقر حكمه في يثرب مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم، فكان المسجد أول مدرسة جماعية منظمة عرفها العرب، لتعليم الكبار والصغار، ولتربية الرجال والنساء.
كان لهذه المدرسة في "ليلي" ينام فيه من يأوي إليه من الأرياف، أو من الفقراء "كأهل الصفة"، فيجمعون بين التعلم الديني والدنيوي، حتى إذا أتقنوا حرفة أو وجدوا عملا ذهبو يطلبون الرزق، وبقوا يترددون إلى مدرستهم في النهار لطلب العلم وأداء العبادة، وكانت الألعاب والتمارين الحربية تقام في ساحته أحيانا، كما فعل الأحباش ورسول الله صلى الله عليه وسلم ينظر إليهم من حجرته، ويقول لهم: "دونكم يا بني أرفدة"، والسيدة عائشة تنظر إليهم مع النبي صلى الله عليه وسلم1.
وبقي المسجد يؤدي وظيفتي العبادة والتربية الإسلامية، دون تمييز واضح بينهما حتى كان عهد عمر بن الخطاب، أمير المؤمنين، فنشأ في عصره إلى جانب المسجد أو بعض زواياه، كتاتيب للأطفال يتعلمون فيها.
وهنا بدأ بعض التنظيم لتعليم الأطفال، وكان يوم الجمعة يوم راحة أسبوعية استعدادا لصلاة الجمعة، فاقترح أمير المؤمنين عمر بن الخطاب أن يصرف الطلاب ظهر يوم الخميس ليستعدوا ليوم الجمعة، فكانت نظاما متبعا إلى يومنا هذا3، وعم رأيه الأمصار، وربما انتشر وذاع بشكل كيفي، دون قصد أو تعميم رسمي، لما كان يتمتع به من شخصية فذة محبوبة، وإيمان قوي جعله مسموع الكلمة.
وهكذا كان التعليم يقوم على جهود مؤسسات خاصة، يقوم عليها أشخاص يديرونها بجهود شخصية، وقد يتعاطى بعضهم أجرا زهيدا يقيم به أوده لانشغاله بالتعليم عن طلب الرزق.
فأصبح تعليم الأطفال مهنة حرة، ذات نظام "لا مركزي" يخضع لإشراف الدولة، ومراقبتها بين الحين والحين.
كان المسجد أو الغرف الملحقة به هو مكان هذه "الكتاتيب" في أول الأمر، وكان في المسجد حلقات علم بعضها يوازي مستوى "المرحلة الثانوية" في عصرنا هذا، وكانت الدولة تغدق العطايا لبعض العلماء القائمين على هذه الحلقات، وكانوا يدرسون كتبا معينة، في بعض العلوم، للمبتدئين في هذا العلم كالفقه والحديث، والتفسير، والنحو أحيانا.
__________
1 ثبت في القرآن وبعض مراجع التاريخ أن السحرة كانوا يعلمون الناس السحر، وكان الملوك الكافرون يغدقون عليهم العطايا ليؤيدوهم، ويدعوا الناس إلى عبادتهم، قصة الغلام والساحر، معروفة في الأحاديث الصحيحة، ولكن هذا كان في أحوال خاصة وظروف لا تتخذ مقياسا.
2 صحيح البخاري.
3 التراتيب الإدارية: عبد الحي الكناني.

3- المدارس في العصر العباسي المتأخر:
فلما استقلت الدويلات عن الخلافة العباسية، بدأ بعضها يبني مدارس للعلم كل مدرسة تؤوي عشرات من طلاب العلم، وكان نظام هذه المدارس داخليا يقوم على الانقطاع لطلب العلم، فكان في دمشق وحدها، مثلًا، زهاء ثلاث مئة مدرسة في سفح جبل قاسيون ما تزال آثار كثير منها على شكل قباب تشرف على بعض الحدائق العامة، هذا عدا عن المدارس التي كانت في قلب المدينة، كالمدرسة الظاهرية التي بناها الملك الظاهر، والمدرسة النووية التي بناها نور الدين الزنكي، وبقي التعليم في هذه المدارس حرا لا مركزيا من حيث المناهج، والكتب والأساليب، مع ارتباطها ماليا بالدولة التي تجري لها الجرايات، وتخصص لها الأوقاف، والهبات دون أن تقيدها نظام معين، أو مناهج محدودة، ثقة منها بالعلماء الأفذاذ الذين كانوا يديرونها، ويغذونها بالعلم.
وبقي الأمر كذلك زهاء عشرة قرون حتى جاء الاستعمار الغربي إلى بلادنا، فعم فيها نظام المدرسة الموحدة، والتعليم المركزي التابع لمركز العاصمة في البلاد، وللمستشارين الأجانب في الأقطار التي استعمرت عسكريا، ويرى علماء التربية أن لهذه المدرسة مهمات تربوية وجدت من أجل أدائها تذكر فيما يلي أهمها مع مناقشتها من وجهة النظر التربية الإسلامية:

4- المدرسة المعاصرة:
*- أسباب وجود المدرسة الحديثة:
الأسباب التي دعت إلى وجود المدرسة الحديثة بهذا الشكل الذي نراه اليوم، يرجع معظمها إلى تغير نظام الحياة السياسية، فقد هيمنت الدولة على كل أمور الشعب، واعتبرت نفسها مسئولية عن غذائه، وموارد رزقه، وثرواته، واتجاهاته السياسية، وتكتلاته الاجتماعية، بالإضافة إلى أمنه واستقراره، وتحقيق حرياته وكرامة أفراده، وكرامة الدولة نفسها تجاه الدول الأخرى.
وهذه الأمور كلها تبنى على التعليم والتربية، فبالتربية تنمي الثروة البشرية كما يسمونها، بحيث تكون سببا لكل أنواع الثراء: ينمي أفراد المجتمع على حب العمل، واستغلال خيرات الأرض وثروات الوطن، بأسلوب تقني يعطي أكبر منتوج ممكن، بأقل جهد ممكن وفي أسرع وقت ممكن.
وبالتربية يمكن إيجاد المحبة بين جميع طبقات الشعب، وطوائفه وفئاته، فيتحقق التجانس، والأمن والاستقرار، ويربي الجيل على احترام الأموال، والملكيات والأعراض والأرواح، فيستقر بذلك الأمن.
هذه مجمل الأسباب السياسية، والاجتماعية التي دعت الدولة إلى الأخذ بزمام التعليم، ووضع مناهجه ونظمه، وتهيئة مدارسه ومعلميه.
نقد هذه الأسباب، وموقف الإسلام منها:
رأينا اهتمام الدولة في تاريخنا الإسلامي بالتعليم، ويمكننا أن نضيف إلى ما تقدم أنه إذا كان شعور خليفة عادل، كعمر بن الخطاب، أو عمر بن عبد العزيز، بالمسئولية عن كل ما يجري في دولته، حتى عن دابة تزل على جسم أقيم على نهر الفرات، ثم أفسدته الأمطار أو غيرها فغفل المسئولون عن إصلاحه، فكيف اهتمامهم بأرزاق الشعب وأقواته ونظم حياته، هذا أمر بدهي في الدولة المسلمة: اهتمامها بكل شئون الشعب، وعلى رأسها التعليم، ولكن الفارق يبدو واضحًا في أسلوب التطبيق، والسهر والتنفيذ، فالدولة المسلمة تعطي حرية كاملة للتعليم على أساس ثقتها بالمشرفين على التعليم، وبأن الشعب كله يؤمن بدستور واحد، وهدف واحد وتراث ثقافي واحد، فالشعب هو الرقيب المباشر على التعليم، وهو الذي يعرف كيف يوفر المؤسسات التعليمية، ويهيئ أسبابها.
ضع للمدرسة هدفا أساسيا هو تحقيق التربية الإسلامية بأسسها، وأهدافها كما مرت معنا: وخرج لها أساتذتها والمسئولين، والمؤمنين بهذا الهدف، واتركها تنطلق على أساس هذا الهدف، تجد كل شيء فيها متناسقًا، وكل نتيجة خيرة يمكن أن ننتظرها من هذه المدرسة، سواء في المجال الاجتماعي أو الاقتصادي، أو الديمقراطي كما يسمونه أو الأمني.
وتبقى الدولة مع ذلك رقيبًا، إلى جانب الشعب، تشجع التسابق إلى الخير في جميع مؤسسات التعليم، وتقوم كل ما اعوج منها، وتضرب بيد من حديد على كل من يتلاعب بعقيدة النشئ، أو ينحرف بأهدافهم فيغيرها، كما تمول الدولة كل ما تستطيع تمويله من هذه المؤسسات، فتعين الشعب على تربية أبنائه وتعليم أجياله، وتصبح الانطلاقة التربوية ذاتية لا مفروضة، بل نابعة من أعمال المعلمين والمتعلمين، وتصبح المسئولية التربوية مرتبطة بالنتائج التي يرتقبها المجتمع من كل مؤسسة تعليمية، بل إنها مرتبطة بالمسئولية أمام الله الذي يحصي كل مثقال ذرة من خير أو شر.

وظائف المدرسة الحديثة
*
وظيفة التبسيط والتخليص
...
أ- وظيفة التبسيط والتلخيص:
إن تعقيد الحضارة المعاصرة واتساع ثقافتها، وتشابك الأمم والشعوب في المصالح والمنافع، واشتراك البشرية في وسائل الإذاعة، والاتصال السلكي واللاسلكي، وانتشار وسائل الرفاهية، والمخترعات التي زادت في سرعة الاتصال، والانتقال بين الشعوب زيادة مذهلة، واستخدام الكهرباء والسيارة، كل ذلك وغيره، جعل الطفل الناشئ بحاجة ماسة إلى تقريب المبادئ التي بنيت عليها هذه الوسائل، وتبسيطها بحيث يستطيع فهمها، والتعامل مع هذا الجو الحضاري العالمي الجديد، دونما دهشة أو ارتباك، أو خوف أو ارتياب أو غرور، أو إعجاب أو ترف أو استهتار.
والتبسيط يجب أن يلتقي مع التلخيص، وهو اختصار هذه المظاهر، والعلوم الواسعة المترامية الأطراف، من دراسة كونية طبيعية، إلى معلومات جغرافية، إلى مسائل حسابية رياضية، واختزالها في قوانين أو دساتير، أو مبادئ يسهل استيعابها، وتشمل أكبر قدر ممكن من التطبيقات، ومما يحتاجه الناشئ في حياته ومجتمعه، بحيث يستطيع بهذه المعلومات والمبادئ والدساتير المحدودة، أن يحل رموز كل المخترعات التي يحتاج أن يتعامل معها، وأن يستخدم لغة الحساب والأرصاد الجوية، والرموز الجغرافية في تعايشه مع البيئة، والمجتمع الذي يعيش فيه، كما يستعمل لغة أمته في التفاهم مع إخوانه في العقيدة، وفي مناجاة ربه، والتعبير عن مشاعره وتبادل العواطف، والمشاعر مع الآخرين.
والتربية الإسلامية بأهدافها، وأسسها التي مرت معنا تشمل هذا التبسيط، والتلخيص لأسباب أهمها:
*- أن الله سخر لنا ما في الأرض جميعًا معه، فعلينا أن نستخدم كلما سخر لنا، وهذا الاستخدام لا يتم اليوم إلا بمعرفة قوانين الطبيعة وسننها وقواها، وهذه المعرفة لا يمكن تقديمها للناشئين إلا إذا لخصت، وبسطت وقربت إلى عقولهم، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب.
*- من طبيعة الأسلوب التربوي القرآني مراعاة التدج والتبسيط، والقرآن إنما اتبع هذا الأسلوب ليكون لنا قدوة في الدعوة إلى الله بالحكمة، والموعظة الحسنة، ومن مقتضى الحكمة وضع الأمور في مواضعها، وتقديم العلم تقديما يتناسب مع حالة المتعلم، والمتعلم الناشئ أشد الناس حاجة إلى هذا.
*- كما أن الهدي النبوي التربوي صريح في هذا، فقد ورد في الأثر: "أمرنا أن نخاطب الناس على قدر عقولهم 1، والناشئون أشد الناس حاجة إلى تبسيط المعلومات، وتلخيصها لتأتي على قدر عقولهم، وكان أسلوب رسول الله صلى الله عليه وسلم مع الأطفال أكبر شاهد على هذا كما سيأتي شرحه، وبسطه في حينه إن شاء الله.

ب- وظيفة التصفية، والتطهير:
تمر العلوم أو العقيدة على عقول أجيال متتابعة من الناس والمجتمعات، فلا تبقى على حالها، بل تتحمل كثيرًا من الشوائب، والعواطف الكاذبة، والمبالغات الخاطئة، والاعتبارات الشخصية أو الاجتماعية في ظروف معينة، يكون الناس فيها أميل إلى الإشاعات، وسرعة التصديق، والارتماء في أحضنا التعليلات الساذجة غير العلمية، فتتغير الحقائق، وتنحرف العقيدة عند البعض، فيصبحون أقرب إلى الشرك أو الرياء، أو الكذب على رسول الله، أو نحو ذلك، وقد يؤلف بعضهم المؤلفات، ويكتب هذه الأباطيل في الكتب كما فعل بعض الصوفية والمبتدعة.
والمدرسة عندما تقدم العقيدة والعلم إلى الناشئين، تعمد إلى تصفية الحقائق، وتنقيتها من كل الشوائب والأخطاء، والمبالغات والأكاذيب، لتبقى عقيدة الناشئين سليمة، وعقولهم قويمة، ومعارفهم صحيحة.
هذه الوظيفة هي من طبيعة التربية الإسلامية، وهي من أهم أهدافها، ومهماتها التي تقوم على تحقيقها للأسباب الآتية:
*- أن الإنسان يولد في نظر الإسلام على الفطرة السليمة، ثم يأتي الفساد عن طريق المجتمع الفاسد، فالتربية الإسلامية هي الدفاع عن براءة الفطرة وسلامتها.
*- أن طبيعة النفس الإنسانية كما وصفها الإسلام قابلة للخير والشر: {فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا} [الشمس: 91/ 8] .
*- إن الله امتحن الإنسان، فجعله إمام أمرين، إما أن يختار طريق الخير، وإما أن ينحرف إلى الوساوس والأوهام، التي تحاول إغراءه بشتى الوسائل، وقد أمهل
__________
1 ولعل أصل هذا الأثر ما ورد في صحيح البخاري من كلام علي بن أبي طالب رضي الله عنه: "حدثوا الناس بما يعرفون، أتحبون أن يكذب الله ورسوله"، ج1 كتاب العلم.

الله الشيطان وأعطاه كل مقدرة على الإغراء حتى يتم به ابتلاء الإنسان؛ فكان هذا أكبر داع إلى أن يتخذ المربي عدته للحذر من الانحراف؛ لأنه موجود في كل زمان ومكان، ومن أهم أساليب هذا الحذر، تصفية العقيدة والشريعة، والعلوم كلها من شوائب التحريف والتشويه التي توسوس لها الأهواء، أو يوحي بها المنحرفون من عباد الأهواء والشهوات، والمادة في كل زمان ومكان.
*- وقد دعا الإسلام صراحة إلى الدفاع عن العقيدة، والشريعة والفطرة من التحريف، وإلى إبعاد الخرافات والتأويلات الباطلة للظواهر الكونية، فنهى عن التشاؤم كما مر معنا في عقيدة القضاء والقدر، ونهى الرسول الله عن تعليل الخسوف بموت ابنه، ونهى عن البدع والابتداع، والزيادة في الشرع والدين، حتى أصبحت مهمة ترك البدع، جانبا قائمًا بذاته من جوانب التربية الإسلامية.
*- كذلك حذر الإسلام من الكذب أو التحريف في نقل الأخبار، والحوادث التاريخية، وأحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم، وعلم الناشئ والإنسان: أنه مسئول عن كل ما يتحدث به تثبت، أو تأكد من صحته قال تعالى: {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولًا} [الإسراء: 17/ 36] .
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: $"كفى بالمرء كذبا أن يحدث بكل ما سمع".
وهكذا لم تكتف التربية الإسلامية بتقديم المنهج، والمواد العلمية للناشئ مصفاة خالصة من كل شائبة، أو تحريف بل ربت الناشئ على الامتناع عن قبول أي شيء دون التثبت منه، وبهذا ربت عنده مناعة ضد كل تحريف أو خرافة، وربته على "الأمانة العلمية"، و"التفكير المنطقي"، فأصبح لا يقبل حقائق العلم إلا صحيحة، ولا الأخبار التاريخية إلا صادقة.

ج- توسيع آفاق الناشئ وزيادة خبراته بنقل التراث:
لا يتكفي المدرسة بتنمية خبرات الناشئ الناجمة عن احتكاكه بالبيئة في المواقف التي تضطره ظروفه إليها، بل تكسبه خبرات من تجارب أجيال الإنسانية الماضية التي سبقته، منذ قرون طويلة، وخبرات من تجارب الأمم الأخرى المعاصرة.
وهذا ما يسميه بعض علماء التربية وظيفة "نقل التراث"، ويمكن أن يسمى في التربية الإسلامية بـ"إحياء التراث" والوراثة في اللغة، وانتقال الثروة من السلف إلى الخلف، ويطلق على ذلك الثروات الفكرية، والمعاني الدينية والكتب السماوية قال سبحانه: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتَابَ} [الأعراف: 7/ 169] .
وقال تعالى: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا} [فاطر: 35/ 32] .
والحرص على التراث الفكري والثقافي أمر في غاية الأهمية؛ لأنه ينقل إلينا خبرات عظيمة، طالما انقضت أعمار الأجيال وجهودها في تحصيلها، وهي ثمرات إبداع الأسلاف وحضارتهم ومخترعاتهم، وأبحاثهم العلمية واكتشافاتهم، ولكن ضخامة هذا التراث، واندثار القديم منه، وتغير كثير من الظروف والأحوال، والعقيدة يجعل من المستحل أن تحرص كل أمة على تلقين أبنائها جميع تراثهم بقضه وقضيضه، وبما طرأ عليه من تغيرات بلغت حد التناقض، في بعض العصور والتقلبات التاريخية، لذلك لا بد من انتقاء "المدرسة" لعناصر التراث الفكري، والثقافي الذي يمكن تقديمه إلى الجيل الحاضر ليكون عونا له على وحدته النفسية1، وعونا على وحدة الأمة التي يعيش فيها، وعلى وحدة المجتمع الجغرافية، والتاريخية، وعلى التحقيق الخير لهذا المجتمع، وإبعاد الشرور والانحرافات عن أبنائه، وعن حياته وجميع مجالاته.
ولا بد لهذا "الانتقاء" من معيار ومقياس، ولا بد لهذا المقياس من هدف يحققه، وقد بينا هدف التربية الإسلامية في فصل سابق، وعلى ضوء هذا الهدف يمكننا أن نصنف الأهداف التي تبتغى عند المحافظة على التراث كما يلي2.
*- يحافظ بعض الناس على تراثهم الفكري تعصبا لآبائهم، وأجدادهم وقد أقيم على هذا المبدأ اتجاه اجتماعي سياسي، سمي بالقومية، وهو تعصب كل قوم لما هم عليه، ولآبائهم ولحضارتهم، ولمصالحهم القومية، سواء كانوا على هدى أو في ضلال، بل إن الهدى عند هؤلاء هو المصلحة القومية، لذلك نجد أن ظواهر الاستعمار، واستثمار خيرات الشعوب الضعيفة قد كانت من نتائج هذا الاتجاه3 في
__________
1 سيأتي شرح هذه النقطة عند بحث الوظيفة التالية من وظائف المدرسة "الصهر والتوحيد والتجانس".
2 استوحيت هذا التصنيف من تصلح آيات القرآن، وتأمل ما يدل على هذا الموضوع من هذا الكتاب.
3 انظر: التربية الإسلامية والمواطنة الصالحة في باب "أهداف التربية الإسلامية"، في هذا الكتاب.

القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين الميلادي، وقد نعى القرآن على هذا التعصب الأعمى للآباء، فقال تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلا يَهْتَدُونَ} [البقرة: 2/ 170] .
*- ويتلقف بعض الناس ما توصلت إليه حضارة الأقوام المتحضرة، سعيا وراء المظاهر الحضارية البراقة، وتحقيقا للرفاهية والتعاظم بالمال، والقصور والرياش، وأملا في تقليدهم والوصول إلى ما وصلوا إليه من الغنى، والترف وقد بين الإسلام أن هذا المقصد لا يستحق أن يكون هدفا لذاته، بل ربما كانت مظاهر الترف وسيلة لإغراء الكفار، وزيادة تمسكهم بالدنيا وتماديهم في الضلال وغرورهم، مما يزيد في مسئوليتهم وعذابهم، قال تعالى: {وَلَوْلا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ، وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَابًا وَسُرُرًا عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ، وَزُخْرُفًا وَإِنْ كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ} [الزخرف: 43/ 33-35] .
*- وأما إذا كانت الغاية من الأخذ بأسباب الحضارة، الأخذ بمبادئ القوة، والتمكن في الملك من أجل إقامة شعائر الإسلام، والدفاع عنه فهذا من أعظم المقاصد وأشرفها، قال تعالى: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ، الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ، الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ} [الحج: 22/ 39-41] .
*- أما إحياء العقيدة في نفوس الأجيال: فهذا هو الهدف الأسمى للتربية الإسلامية، وهو عمل أسمى من أن يوصف بأنه "نقل التراث"، إنه صون الفطرة التي فطر الله الناس عليها، وهي الاستعداد لتوحيد الله، وللتعرف على عظمته من تأمل مخلوقاته، ولتحقيق ذلك زودنا الله بهذا "الإسلام" دين الله، ليكون دليلًا ينير لنا الطريق لنسلكه للوصول إلى هدفنا "عبادة الله والعمل بشريعته".

وقد وصف الرسول صلى الله عليه وسلم العلم، والشريعة التي تركها الأنبياء لمن بعدهم بأنها هي الميراث الذي ورثوه للأمة، وأن الله حرم على الناس أن يرثوا من الأنبياء شيئا من المال أو المتاع؛ لأنهم ما أرسلوا لجميع المال، ولا للاغتناء، ولا ليورثوا ذريتهم المال.
فالشريعة وتعاليم النبوة هي أعز ميراث يحيي في النفس عقيدة التوحيد، ويربي الناشئين على الفطرة السليمة.
ولذلك كان إغناء خبرات الناشئين بتعاليم الشريعة، وعقيدة التوحيد، أول وظيفة وأهم مهمة تضطلع بها المدرسة في نظر التربية الإسلامية.
وكل "تراث" آخر يجب أن يكون تبعًا لهذا التراث الإلهي، الذي أورثه الله الذين اصطفى من عباده من الأنبياء وأتباعهم، حتى وصلتنا الشريعة المحمدية بيضاء نقية لنعمل بها، ونحقق عبادة الله وتوحيده.
فعلوم الأمم الأخرى وحضارتها: إنما نأخذ منها ما يمكننا في الأرض، ويعطينا أسباب القوة بكل معانيها: القوة الحربية، والقوة الاقتصادية، والقوة الإعلامية، والقوة التنظيمية، لندفع عن عقيدتنا وأرضنا، وديارنا ومساجدنا، وأرواحنا وأعراضنا.
بهذا القصد نوسع خيرات النشء العلمية: الفيزيائية والكيميائية، والفلكية والجوية والجغرافية، والحسابية الرياضية، وغيرها وغيرها.
لا يقصد التفاخر والتباهي، والتكاثر والظهور بمظهر المتحضرين، الذين تضاعفت عندهم أعداد المتعلمين أضعافا مضاعفة في ربع قرن من الزمن، أو انتشرت عندهم الثقافات العلمية، وكثرت المخابر والكليات العلمية.
إن الأمم لا تقاس بالعدد، وإنما تكثر بالنصر وتقل بالخذلان، أي أنها تقاس بالنتائج التي تحققها في مجالات النصر، والتفوق الحربي والصناعي والمعنوي، تقاس بما غرست المدرسة في نفوس أبنائها من الإيمان بالله، والثقة بالنفس وطلب الموت في سبيل إعلاء كلمة الله، ومن الوعي العلمي، والثقافي المسلح بسلاح
الإيمان، وعلوم اللغة العربية وآدابها، والتاريخ الإسلامي كل هذه المعارف، والعلوم جزء من التراث الإسلامي؛ لأنها ساعدت على فهم القرآن، وحفظ الشريعة والعمل بها، لذلك يجب انتقاء ما يحقق هذا الهدف، من تلك العلوم، وترك الشوائب والانحرافات التي حصلت على هامش هذا التاريخ الإسلامي العتيد، فضخمها الذين يتبعون الشهوات، ويريدون للمؤمنين أن يميلوا ميلا عظيما، وجعلوا
يعرضون الخلافات والحروب الداخلية، والأخبار الماجنة المنسوبة إلى بعض الخلفاء والأمراء، وكأنها هي مقياس هذا التاريخ والأصل فيه، وغفلوا أو تغافلوا عن الهدف الأسمى الذي من أجله فتح أجدادنا الدنيا، وعن الإصلاحات
الداخلية العظيمة التي قاموا بها. وجعلوا معظم شواهد علوم اللغة، وتاريخها وآدابها تدور حول أمور الحياة والشهوات والمجون، وغفلوا عن شواهد القرآن وآدابه، وهو الذي حفظ الله به اللغة العربية من الضياع، والانقسام والتفسخ،
وجمع شمل الأمة وكلمتها.
د- وظيفة الصهر والتوحيد وإيجاد التجانس، والتأليف بين الناشئين:
يرتاد المدرسة اليوم مئات الطلاب من البيئات المختلفة في الفقر والغنى، وفي الجاه والمكانة الاجتماعية، وفي مدى التحضر والتمدن، وفي مدى التدين والشعور بالمسئولية أو الميوعة، والشعور بالضياع، ولو أخذنا مجموعة مدارس أي قطر أو مملكة لوجدنا اختلافا في العادات، واللهجات، والمفاهيم عن الحياة، ما بين ريف ومدينة وما بين ساحل، أو صحراء، أو مناطق زراعية أو صناعية، أو تجارية.
ترى ما أثر المدرسة في هذا الاختلاف والتباين، وما موقفها منه؟
يرى فلاسفة التربية الحديثة أن من النتائج العفوية لتواجد الطلاب، وتعايشهم في ظل نظام مدرسي واحد، تربطهم روابط اجتماعية تشد قلوبهم، ونفوسهم بعضها إلى بعض، وهم في ميعة الصبا، وفرحة الطفولة، ومرح الشباب، كل ذلك كفيل بصهر أفراد المجتمع، ومحو الفوارق أو تقليلها بين أفراده، وطبقاته مهما تناءت بهم الديار، أو باعدت بينهم الاعتبارات، والعادات والتقاليد والأفكار على أن هذا الرأي مبالغ فيه، بل إن الواقع يخالفه إلى حد كبير.
وإن نظرة إلى المجتمعات العربية والإسلامية، ترينا أن معظم أبنائها تخرجوا من مدارس ذات أنظمة واحدة ومناهج واحدة، ومع ذلك تجدهم في القطر الواحد.

مختلفين، بعد تخرجهم إلى معترك الحياة، لا تجمعهم راية واحدة ولا يستهويهم هدف واحد، بل تفرقهم المصالح والشهوات والأنانيات.
ذلك أن الصهر والتجانس الحقيقي لا يتحقق على المدى البعيد، إلا إذا اجتمعت القلوب والعواطف، والأفكار على أسس نفسية عميقة تصلح لتكوين تصورات اجتماعية مشتركة، كما يسميها علماء الاجتماع، على أن تنبع من أعماق النفس عفوا من غير تكلف، ولا قسر اجتماعي.
وهذه الأسس يجب أن تبنى على الإيمان الصحيح، الإيمان بحقائق سليمة، مسايرة للفطرة الإنسانية والعقل السليم، توحد نظرة الإنسان إلى أخيه الإنسان، وإلى الكون وإلى الحياة، وإلى القيم الإنسانية، وذلك بتوحيد خضوعهم إلى خالق الكون وموجد الموت، والحياة ومكرم الإنسان، وإلى تشريعه وأوامره.
ولو تأملت معنى هذه الصفات لما وجدتها تنطبق إلا على "أسس التربية الإسلامية"، كما أوردناها في فصل سابق، ولعرفت مغزى قوله تعالى: {لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ} [الأنفال: 8/ 63] ، فالتوحيد الذي دعا إليه القرآن، وأثر في نفوس العرب هو الذي صهرهم وألف بينهم.
فالصهر والتجانس بين المواطنين لا يحصل إلا إذا ألف الإيمان الصحيح بين قلوبهم، وحينئذ تذوب جميع الفوارق، وتنمحي كل الاعتبارات المفرقة، ويتنازل الجميع من تلقاء أنفسهم عن كل الحزازات والضغائن، وأسباب الحسد أو التباعد، سعيا وراء مرضاة الله، وحبا لله وشكرًا له على نعمة الإيمان، والسعادة النفسية والاطمئنان.
فالمدرسة لا تصهر المواطنين، ولا تحقق التجانس المطلوب بينهم إلا إذا بنيت على أسس التربية الإسلامية، وحققت أهدافها.
أما المدارس القائمة على مبادئ "المواطنة الصالحة" في أمم الغرب، فإنها تصلح أداة لغرس خلق التواطؤ الاستعماري، وطغيان الشعوب القوية على الشعوب الضعيفة؛ لأنه ليس لديها مقياس حقيقي للمواطن الصالح إلا مسايرة قومه على الخير أو الشر، وعلى تحقيق الشهوات والمصالح الدنيوية، والقهر والجبروت، والتسلط والبغي.
بغير حق، كما راينا في بحثنا لأهداف التربية عندما عالجنا موضوع "الإسلام والمواطنة الصالحة".

هـ- وظيفة تنسيق الجهود التربوية المختلفة وتصحيحها:
يساهم في تربية الجيل عوامل عديدة، منها المنزل وقد شرحنا دوره، ومنها المجتمع وسيأتي شرحه، ومنها وسائل الإعلام، والمسجد، والحي؛ على أن هذه العوامل والمؤسسات قد تترك في نفس الناشئ بعض النشاز، والتعارض بين الأفكار، والعواطف أو بعض الأخطاء، وإن لم تكن صادرة عن أهداف وأسس واحدة، فمبالغات بعض الصحف وتخير بعض محطات الإذاعة في أخبارها، وميوعة الأغاني التي تملأ الأسماع والأدمغة، وكثيرا من القلوب، كل ذلك وغيره لا يتناسب مع الأفكار التربوية السليمة، والمعلومات الصحيحة، التي تقدمها المدرسة، لذلك كان من واجب المدرسة إما أن تنسق جهود هذه المؤسسات بالتعاون العليم المباشر معها، في ظل الدولة الواحدة، وإما أن تعقد ندوات للطلاب خاصة بانتقاد كل ما يصر عن هذه المؤسسات، والمؤثرات التربوية، لنشر الآراء السليمة في منازلهم وبين ذويهم.
وهذا العمل إنما يؤدي إليه تحقيق أهداف التربية الإسلامية، وأسسها التعبدية والتشريعية1 بشكل عفوي، فالشريعة الإسلامية ضابط أخلاقي للمجتمع، والمدرسة أحق مؤسسة اجتماعية بأن تتولى هذا الضبط عن طريق التنسيق، والتصحيح كما رأينا.

و التكميل لمهمة المنزل التربوية:
تعتبر المدرسة بحق أداة مكملة؛ لأن تربية الناشئ تبدأ في أحضان أبويه، يلقنانه مبادئ اللغة، ومفاهيم الحياة الاجتماعية، وأساليب التعايش مع البيئة، والتفاعل مع ظروف الحياة، ويغرسان في قلبه مبادئ الإيمان الصحيح.
لذلك لا بد من إقامة تعاون صريح بين المنزل والمدرسة، وأن تخصص المدرسة جهازا لتنسيق الاتصال بالأولياء: آباء الطلاب وأمهات الطالبات، ومعرفة هواتفهم ومناطق سكنهم وأماكن عملهم، ومعرفة ما يمكن معرفته من الظروف التي يربى فيها الناشئون في منازلهم، وأساليب تربيتهم هناك، لتصحيح الخاطئ منها وإكمال الصالح، والتعاون مع الأولياء على إصلاح الناشئين، وحسن تربيتهم ليكمل كل من المنزل، والمدرسة ما بدأ به الآخر، من غرس الإيمان الصحيح والسلوك القويم، ويقوم ما يعرض من انحرافات، ومشكلات في حياة الناشئ، ولئلا يحدث تعارض وتناقض، بين أسلوب المنزل التربوي، وأسلوب المدرسة، فيقع الأطفال، والناشئون ضحية هذا التعارض.
وهذه الوظيفة التربوية للمدرسة، إنما تتحق على الوجه الأكمل حينما تتبنى مبدأ "التواصي بالحق"، وهو من أهم مبادئ التربية الإسلامية الاجتماعية، فتتعاون المدرسة مع المسجد والمنزل والمجتمع، ويكون هدف الجميع تحقيق العبودية لله، وتطبيق شريعته، وتحقيق العزة، والكرامة للأمة الإسلامية وأجيالها، والنصح لأولياء الأمور القائمين على الإذاعة، والصحافة والرائي، وهي من أهم الوسائل المؤثرة في تربية الجيل بأسلوب غير مباشر.
مزالق المدرسة الحديثة، وعلاجها:
على الرغم من العبء الكبير الذي تحملته المدرسة اليوم في تربية الأجيال، فقد وقعت في مزالق رهيبة، كادت معها أن تؤدي بالأمة الإسلامية، وتسلم أجيالها إلى الخذلان والاستسلام، والإباحية والإلحاد في كثير من الأقطار العربية والإسلامية.
ومن أهم هذه المزالق:
*- الانعزالية:
كانت الكتاتيب، وحلقات المساجد من الشعب لتربية الشعب المسلم، وكانت على صلة دائمة بالشعب، فلم تكون طبقة مهنية معزولة عن الشعب، بل بقيت تعالج دائما مشكلات المجتمع الإسلامي، وكان طلاب العلم المخلصون، نقادا لأخطاء الحكام والتجار، والأمراء وأصحاب المهن، ينصحونهم ولا يبالون في الله
لومة لائم، وكانوا يشاركون الشعب أفراحه وآلامه وحروبه، كما فعل شيخ الإسلام أحمد بن تيمية، وطلابه عند حروف الفرق الباطنية التي كانت تطعن الأمة في
__________
1 انظر أثر الشريعة في تربية الخلق، من الفصل الثالث "أسس التربية الإسلامية" من هذا الكتاب.

ظهرها أيام الحروب الصليبية، ذلك أن علمهم، وتربيتهم الإسلامية قد هيأتهم لخدمة مجتمعهم وأمتهم.
بيد أن المدرسة الحديثة اليوم أصبحت في معزل عن الحياة الاجتماعية قلما تشعر بحاجات مجتمعها، فتحققها أو بأخطائه فتقومها.
لقد أصبح معظمها يعيش في برجه العاجي، وفي عالمه المغلق على نفسه، همه إنهاء المناهج وتنظيم الطلاب، وتهيئة الجو المدرسي الملائم، والسمعة الطيبة والنتائج المدرسية المرجوة، ونسبة النجاح المرموقة.
وتعالت صيحات بعض المربين مثل "جون ديوي" لجعل المدرسة مجتمعا مصغرا، لكن هذا لم يكن كافيا، فقد سميت المدرسة مجتمعا طلابيا طفوليا، لا يمثل مجتمع الكبار، ولا يتعاطف مع إلا نادرًا، وفي حدود دراسة البيئة، والتربية الوطنية.
والتربية الإسلامية التي تهدف إلى تخريج مصلحين حقيقيين، ورواد اجتماعيين، تدعو المدرسة إلى المشاركة الفعلية في النصح للمجتمع، والمساهمة في إصلاحه، ولترسل من طلابها وعاظا إلى المساجد، ومساهمين في الحض على نظام السير، مثلان أو نظافة المدينة وحدائقها، والحض على جمع التبرعات للجهاد، أو لمساعدة الفقراء، والعمل على محو الأمية، وكل ما يحتاجه المجتمع.
ولتحقق ذلك، يجب على المدرسة أن تستقي مناهجها وكتبها، ومقرراتها ونشاطها من صميم عقيدة الأمة وتاريخها، وأهدافها ومتطلباتها وآمالها وآلامها، حتى تخرج جيلا يحس بمشكلات مجتمعه، ويعمل على حلها، ويحس بآلام أمته ويربى على السعي إلى محوها، يعادي من يعادي أمته، وتحيا في نفسه مثلها العليا، ومصالحها فيعمل على تحقيقها منذ نشأته، ليستمر متعاطفًا مع مجتمعه وقضايا أمته مواليا للأمة الإسلامية مخلصًا لها طيلة حياته.
وتلتقي المدارس كلها على ذلك بالتقاء العاملين فيها على الإخلاص، وصدق الإيمان، والعمل لإعلاء كلمة الله في نفوس الأجيال وقلوبهم، وبتنظيم المشرفين على المدارس، لأمورها ومناهجها ونشاطها على هذه الأسس، وبحسن الإشراف والنصح والتوجيه، والتعاون مع أساتذة المدارس، ومدرائها والعاملين فيها، بوعي

وجد وتفان، وإخلاص للمصلحة العامة، التي لا تتحقق إلا باستهداف مرضاة الله، فهذا هو ما تجتمع عليه قلوب المخلصين ومساعيهم.
*- التبعية لثقافة الغرب، وفلسفتها المبنية على الإلحاد:
لو تأملنا معظم كتبنا المدرسية، والمراجع التي أخذت عنها لوجدناها مترجمة بعضها بالنص، وبعضها بالمعنى عن المراجع والثقافات الغربية، فتاريخنا ينقله المؤلفون عن مراجع لمؤرخين أجانب، وكتب العلوم الطبيعية من فيزياء وكيمياء، وتشريح لجسم الإنسان، مترجمة عن الأبحاث الطبيعية التي قام بها علماء الغرب، وكذلك سائر العلوم الإنسانية من تربية وعلم نفس، وعلم اجتماع، وباقي العلوم الأخرى من جيولوجيا وجغرافيا.
ولقائل أن يقول: ماذا يضير المسلم لو أخذ الحكمة من أعدائه، ما دام بحاجة إليها، وما داموا قد سبقونا إلى اكتشاف هذه العلوم والتوسع فيها، بعد أن وضع أجدادنا أسس البحث العلمي لاكتشافها، وبدءوا فعلًا في التأليف في مبادئ الطب والفيزياء، والكيمياء والجبر وعلم الاجتماع؟
قد يكون هذا صحيحًا لو أمكن أن نأخذ هذه العلوم دون أن تزعزع عقيدة الناشئين، وتفت في كيانهم النفسي وتعيث فسادا، وتخريبا في كيان الأمة الاجتماعي، فقد غير هؤلاء الغربيون كل المبادئ التي بنى عليها أجدادنا بحثهم، وأخذوا بالأساليب المنطقية والتجريبية، دون الأسس الدينية والفكرية.
وهكذا أصبح لهذه العلوم الغربية "منطلقات عقائدية" تعارض عقيدة التوحيد التي تحيا في قلب كل مسلم، ويدافع عنها كل غيور على الإسلام، فهي "أي العلوم الغربية"، تنطلق من تصور خاطئ للوجود كله يغاير الأسس الفكرية الإسلامية التي شرحناها في الفصل الثالث من هذا الكتاب.
ونستطيع أن نلخص هذه الخلفية، أو المنطلقات العقائدية المشتركة بين كل فروع المعرفة، والثقافة الغربية بقولنا: الوجود كله، في زعمهم، منحصر في الطبيعة والإنسان، وهو أي الإنسان جزء منها ونوع من أنواعها، والطبيعة وجدت هكذا بنفسها، وكذلك سننها أو قوانينها، فهي، حسب رأيهم، مقدرة بنفسها من غير
مقدر لها، والعقل، عندهم، وحدة طريق معرفة الحقائق، وليس ثمة طريق آخر، وليست المثل الأخلاقية والقيم، والمفاهيم الحقوقية إلا وقائع أو حوادث كالحوادث الطبيعبة، نشأت وتطورت، فهي ليست ثابته، والإنسان نفسه إنما هو حيوان اجتماعي مفكر فحسب، وليست النفس الإنسانية إلا مجموعة من الغرائز.
وليس في هذه الفلسفة الغربية، أو التصور الوجودي للكون كما نرى مكان للإله، وصلته بالإنسان وبالكون ونظامه السببي، ولا بالوحي والنبوات، ولا للجزاء والحياة الخالدة، ولا لسائر الغيبيات1.
"إن هذه المفاهيم منبثة مفرقة في مختلف العلوم التي تعلم في نظم التعليم السائدة في العالم الإسلامي، ويتكون من مجموعها مركب فكري عقائدي يخالف الإسلام مخالفة جذرية"2.
هذه هي الكارثة التي أدخلتها المدرسة الحديثة على أمتنا، وأجيالنا في طول البلاد الإسلامية وعرضها، كارثة "لم تعرف الأمة الإسلامية في التاريخ كارثة أشد هولا، وأفظع في نتائجها منها، ولا تعدلها كارثة التتار ولا الحروب الصليبية، ولا حروب الاستعمار، بل إن جميع المشكلات السياسية والاجتماعية والاقتصادية، والتربوية التي تعانيها، فروع لهذه المشكلة الأساسية"3.
"إن حل هذه المشكلة ليس بطرد هذه العلوم، وإيصاد الأبواب أمامها، وإنما الحل الذي نطرحه، وندعو إلى الأخذ به هو صياغة العلوم جميعا صياغة إسلامية، أو بعبارة
__________
1 الأستاذ محمد المبارك -عن مجلة البعث الإسلامي "مجلد 21 - عدد 10 - ص32" تصدر في ندوة العلماء بالهند.
2 ففي كتب العلوم الطبيعية تجد مثل قولهم: إن الطبيعة وهبت الإنسان كذا وكذا من الطاقات والقابليات، وأوجدت في الأكجسين والهيدروجين مثلا خاصة التأليف لتركيب الماء، وهكذا والتاريخ قد قسم إلى القرون الأولى والعصور الوسطى، والحديثة على أساس حوادث أوروبية، فهو يجعل العالم كله تبعا للاعتبارات الأوروبية في تاريخه، وعلم الجغرافيا يقسم الشعوب حسب الاعتبارات الأوروبية المادية، وهكذا سائر العلوم.
3 والفقرة 2 من الصفحة السابقة من مقال للأستاذ بعنوان "نحو صياغة إسلامية لعلم الاجتماع"، مجلة البعث الإسلامي عدد رجب 1397هـ ص34-35.

مقدر لها، والعقل، عندهم، وحدة طريق معرفة الحقائق، وليس ثمة طريق آخر، وليست المثل الأخلاقية والقيم، والمفاهيم الحقوقية إلا وقائع أو حوادث كالحوادث الطبيعبة، نشأت وتطورت، فهي ليست ثابته، والإنسان نفسه إنما هو حيوان اجتماعي مفكر فحسب، وليست النفس الإنسانية إلا مجموعة من الغرائز.
وليس في هذه الفلسفة الغربية، أو التصور الوجودي للكون كما نرى مكان للإله، وصلته بالإنسان وبالكون ونظامه السببي، ولا بالوحي والنبوات، ولا للجزاء والحياة الخالدة، ولا لسائر الغيبيات1.
"إن هذه المفاهيم منبثة مفرقة في مختلف العلوم التي تعلم في نظم التعليم السائدة في العالم الإسلامي، ويتكون من مجموعها مركب فكري عقائدي يخالف الإسلام مخالفة جذرية"2.
هذه هي الكارثة التي أدخلتها المدرسة الحديثة على أمتنا، وأجيالنا في طول البلاد الإسلامية وعرضها، كارثة "لم تعرف الأمة الإسلامية في التاريخ كارثة أشد هولا، وأفظع في نتائجها منها، ولا تعدلها كارثة التتار ولا الحروب الصليبية، ولا حروب الاستعمار، بل إن جميع المشكلات السياسية والاجتماعية والاقتصادية، والتربوية التي تعانيها، فروع لهذه المشكلة الأساسية"3.
"إن حل هذه المشكلة ليس بطرد هذه العلوم، وإيصاد الأبواب أمامها، وإنما الحل الذي نطرحه، وندعو إلى الأخذ به هو صياغة العلوم جميعا صياغة إسلامية، أو بعبارة
__________
1 الأستاذ محمد المبارك -عن مجلة البعث الإسلامي "مجلد 21 - عدد 10 - ص32" تصدر في ندوة العلماء بالهند.
2 ففي كتب العلوم الطبيعية تجد مثل قولهم: إن الطبيعة وهبت الإنسان كذا وكذا من الطاقات والقابليات، وأوجدت في الأكجسين والهيدروجين مثلا خاصة التأليف لتركيب الماء، وهكذا والتاريخ قد قسم إلى القرون الأولى والعصور الوسطى، والحديثة على أساس حوادث أوروبية، فهو يجعل العالم كله تبعا للاعتبارات الأوروبية في تاريخه، وعلم الجغرافيا يقسم الشعوب حسب الاعتبارات الأوروبية المادية، وهكذا سائر العلوم.
3 والفقرة 2 من الصفحة السابقة من مقال للأستاذ بعنوان "نحو صياغة إسلامية لعلم الاجتماع"، مجلة البعث الإسلامي عدد رجب 1397هـ ص34-35.

النفس إلى شقين متنازعينن، أحدهما يؤمن بالله المهيمن الخالق، والآخر يؤمن بالطبيعة، التي هي في زعمهم، مصدر الطاقات، والقوى، والقوانين.
تلك هي الفلسفة التي تسود معظم مدارس الأقطار الإسلامية اليوم، من غير أن نشعر، فترى أستاذ الطبيعية أو الجغرافية مثلا إذا سأله طالب عن حكمه الخالق في أمر من أمور العلم الذي يقرره يحوله إلى أستاذ الدين بدعوى أنه لا علاقة له بالأمور الدينية، ويتكرر مثل هذا الموقف، فيعتقد الناشئ أن معاني العقيدة، والتصور الإسلامي للكون لا علاقة لها بالعلوم الكونية، أو الجغرافية أو حتى التاريخية، وأن مكانها هو كتب الدين فقط، وزمانها هو دروس التوحيد، والفقه والحديث، والقرآن والتفسير، وربما ظن أن هذه العلوم الإسلامية لا تفسر وقائع الكون بنفس الوضوح الذي تفسره دروس العلوم، والجغرافيا "تفسيرًا قاصرا على القوانين الوضعية الطبيعية دون نسبتها إلى تنظيم الخالق، وتربيته لسنن الكون وقواه".
إن هذه الفلسفة التي تفصل الدين عن الدولة "في المجتمع الواحد"، والروح عن الجسد في الكائن الواحد، والعلم عن الأخلاق في الكيان الإنساني الواحد، والعقل عن الوجدان، لهي فلسفة مبلبلة تدع الناشئ حيران لا كيان له، ولا يقين عنده ولا ثقة له بشيء، بل تعلمه النفاق والتلون، وانتحال شخصيات متناقضة متعددة.
وعلاج هذه المشكلة، كعلاج سابقتها يقوم على إعادة تأليف مناهج، وكتب لسائر المعارف، والعلوم من منطلق إسلامي، ولكن بشرط القيام بدورات تربوية إسلامية تدرب المعلمين، والمدرسين على تحقيق هذه المنطلق في جميع جوانب التربية، والتعليم المدرسي1 ...
*- وثنية الشهادات، والامتحانات، وجعلها غاية في ذاتها:
كانت "الإجازة العلمية" قديما عند أسلافنا شهادة من عالم جليل، يشهد بها لأحد طلابه بالقدرة على تدريس كتاب معين، ويسمح له بذلك، ويكتب ما يفيد هذا
__________
1 هذه الفقرة والفقرتان د وهـ من يجيش للمؤلف أحدهما بعنوان "من حصاد التربية الحديثة في بلادنا" 2/ 83، والآخر بعنوان "نقد التربية الحديثة" ص80 من كتاب "التربية وطرق التدريس"، للمؤلفين عبد الرحمن نحلاوي، عبد الكريم عثمان، محمد خير عرقسوسي ط الكليات والمعاهد بالرياض 1392هـ.

المعنى: "أجزت فلانًا بتدريس الكتاب الفلاني في العلم الفلاني"، ولم تكن "الإجازة" تعطي إلا بعد شعور صحيح بقدرة هذا "المدرس الجديد"، وبعد مرافقته لشيخه مدة كافية، ومناقشته لجميع قضايا الكتاب مع فهم، وإتقان ومعالجة، ويبقى "المجاز" بعد ذلك على صلة بشيخه، وهكذا كانت الشهادة نقطة بداية للدراسة والبحث العلمي، أما اليوم فقد أصبح الطالب يقصر همته على نيل الشهادة، فإذا حصل عليها انتهت حياته العلمية، ونسي كل شيء، وصارت قيمة الشهادة تقدر بمقدار ما تتيح لصاحبها من عمل يدر عليه الأرباح الطائلة بأقل جهد ممكن، حتى كأنها "صك" يحمله المتخرج يطرق به أبواب الشركات، أو الدوائر الحكومية، ليحصل على مركز اجتماعي، ويقبض راتبا شهريا كبيرا.
*- تخريج موظفين آليين:
وهكذا صارت جامعاتنا ومدراسنا تخرج شبابا قليلة ثقافتهم، سطحيا تفكيرهم لا هم لهم إلا الوصول إلى الشهادة، لا يؤمنون بالحقائق العليمة لذاتها، ولا يستمتعون بنتائجها الفكرية والتطبيقية، إنما همهم أن يصبوا حروفا، وعبارات على ورقة الامتحان ثم ينسوها إلا تخرجوا، فإذا تسلموا عملا في دائرة أو شركة، أصبحوا موظفين كالآلة الصماء يتحركون حسب الأوامر المعطاة لهم، فاقدين كل قدرة على المبادهة والأصالة، وابتكار الحلول الشخصية للمشكلات التي تعترضهم، ولا هم لهم إلا أن يعدوا الأيام ليقبضوا رواتبهم، والأشهر أو السنوات لينتظروا علاواتهم وترفيعهم.
وتحل هاتان المشكلتان باتباع، أو تحقيق الأمور الآتية:
- تدريب الشبان في حياتهم الجامعية، أو في المعاهد الفنية أو السلكية، على استعمال معارفهم والعلوم، والفنون التي يتلقونهم في حل مشكلات مجتمعهم، أي الإكثار من البحوث والتجارب العلمية الميدانية والدورات الصيفية، يقضونها في بعض الأعمال من النوع الذي يناسب تخصصهم الفني، أو العلمي الجامعي.
- إيقاظ الوازع الرباني، والوعي التربوي الإسلامي عند الشبان حتى يشعروا بمسئوليتهم عن علمهم، ماذا عملوا به تجاه خالقهم يوم الجزاء، وبهذا يشعرون بأن تعلمهم هو إعدادهم للجهاد في سبيل إعلاء كلمة الله عن طريق إصلاح مجتمعم، والنهوض بواقع أمتهم الإسلامية.
- غرس الثقة عند الشبان، والإيمان بالكرامة التي كرم الله بها الإنسان، والاعتقاد بأن الذي يشرف الشاب هو علمه، وبحثه وما يتقن من مهارات، وما يقدم من أعمال مخلصًا، وأن الشهادة إنما هي رمز لاجتياز مرحلة، ليست دليلا على التأهيل لعمل، فكم من حامل شهادة أخفق في حياته، وكم من عالم نحرير، شهادته هي مؤلفاته وأبحاثه، وإخلاصه في بث العلم والعمل به.
وكم من خبير طبقت شهرته الآفاق، قبل أن يحمل الشهادات العليا.



No comments:

Post a Comment